يحلّل كرم نعمة في هذا المقال كيف تحوّل تشويه الكلمات في العراق من سلوك عابر إلى أداة حكم، تستخدمها الأحزاب الطائفية والميليشيات لتصفية الحساب مع أي صوت مستقل. يوضح الكاتب أن هذه القوى لا تملك مشروعًا سياسيًا بقدر ما تمتلك قدرة عالية على تحريف المعاني وتسليح اللغة، وتحويل أي عبارة أخلاقية إلى تهمة جاهزة. في هذا السياق، وجد الكاردينال لويس رفائيل ساكو، بطريرك الكلدان الكاثوليك، نفسه هدفًا مباشرًا لحملة منظمة بسبب مواقفه الوطنية الواضحة.

 

يشير ميدل إيست مونيتور إلى أن ساكو يمثل نموذجًا نادرًا لرجل دين عراقي يضع الهوية الوطنية فوق أي انتماء ديني أو طائفي، في مشهد سياسي تهيمن عليه نخب ترى العراق غنيمة لا وطنًا. لم يتوقف ساكو، وفق المقال، عن إدانة تفتيت المجتمع العراقي، ورفض باستمرار تحويل الدين إلى أداة تعبئة أو غطاء للفساد والعنف.

 

خطاب عيد الميلاد: إدانة واضحة لسلطة السلاح

 

يستعيد الكاتب مشهد قداس عيد الميلاد قبل عام، حين وجّه ساكو حديثه مباشرة إلى النخبة السياسية الحاضرة، وبينها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وعمار الحكيم. قال حينها إن الميليشيات اختطفت العراق، وإن البلاد عالقة في بيئة إقليمية ودولية شديدة التعقيد، ولا مخرج من هذا المأزق إلا باستعادة الهوية الوطنية الجامعة.

 

من على منبر كاتدرائية القديس يوسف في بغداد، شدد ساكو على أن المنابر الدينية خُلقت للصلاة والرحمة، لا للعسكرة أو نشر الفوضى. أكد أن رجل الدين خادم للعدالة، لا تابع للميليشيا، وأن واجبه يتمثل في مواجهة الظلم لا في الاندماج داخل نظام سياسي فاسد. دعا بوضوح إلى دولة قانون وعدالة، لا دولة سلاح وولاءات متنازعة، وإلى مواطنة كاملة ومصالحة حقيقية تعيد للعراقيين شعورهم بالانتماء.

 

«التطبيع» كسلاح دعائي

 

في خطاب عيد الميلاد الأخير، كرر ساكو مواقفه الأخلاقية، لكنه استخدم لغة أكثر صراحة. قال إن التطبيع يجب أن يبدأ بين العراقيين أنفسهم. أطلق هذه العبارة وهو يدرك أن نحو مليون عراقي ما زالوا نازحين بعد أن استولت ميليشيات على بيوتهم وأراضيهم، وأن عددًا مشابهًا يعيش في منفى دائم بعد تدمير منازله. قالها وهو يعرف أن مدنًا كاملة أُفرغت من سكانها، وأن قوى نافذة استولت على ممتلكات الناس تحت ذرائع متعددة.

 

لم يكن يقصد، كما يوضح الكاتب، سوى تطبيع الحياة اليومية: عودة الناس إلى بيوتهم، واستعادة الإحساس بالأمان، ووقف التعامل مع المأساة بوصفها وضعًا طبيعيًا. لكن ما إن نطق بكلمة «التطبيع» حتى انطلقت ماكينة الدعاية. سارعت الميليشيات إلى تحريف المعنى وتقديمه على أنه دعوة إلى التطبيع مع إسرائيل.

 

يرفض المقال تفسير ما جرى بوصفه سوء فهم. يرى الكاتب أن التشويه جاء متعمدًا، لأن تلك القوى أدركت أن الخطاب موجّه إليها مباشرة، وأنه يحمّلها مسؤولية الدمار والتشريد. الهدف، بحسب التحليل، إسكات صوت يذكّر العراقيين بأن معاناتهم ليست قدرًا، بل نتيجة مباشرة لحكم السلاح والطائفية.

 

رجل دين خارج القالب الطائفي

 

يؤكد الكاتب أن غضب الأحزاب والميليشيات لا ينبع من الكلمة نفسها، بل من وجود رجل دين لا يشبههم. في بلد تحوّل فيه كثير من رجال الدين إلى أدوات تعبئة وسماسرة ولاءات، يبرز ساكو كاستثناء: رجل دين عراقي أولًا، لا يبارك السلاح ولا يجمّل الميليشيات، ولا يستخدم المنبر لتسويق هوية طائفية.

 

يشرح المقال أن هذا النموذج غير مقبول في منطق السلطة الطائفية، التي تريد رجل دين مطيعًا لا مستقلًا، محرّضًا لا صاحب ضمير، ومباركًا للفوضى لا ناقدًا لها. في عراق صارت فيه الوطنية عبئًا، والارتهان للخارج فضيلة، جرى التعامل مع ولاء ساكو للعراق كجريمة.

 

يختم الكاتب بالتأكيد أن الميليشيات تعيش على اختراع أعداء وهميين، وتستمد شرعيتها من حروب متخيلة. لهذا حُوّلت كلمة واحدة إلى معركة مصطنعة. يرى المقال أن ما قاله ساكو لم يكن خطابًا سياسيًا، بل صرخة أخلاقية تطالب بإعادة العراق إلى نفسه، وإعادة الناس إلى بيوتهم، وإعادة الدولة إلى معناها. يخلص الكاتب إلى أن هذا الصوت، رغم إزعاجه للسلطة، يمثل النموذج الذي يحتاجه العراق اليوم أكثر من أي وقت مضى.

https://www.middleeastmonitor.com/20251225-militia-manipulation-of-cardinal-sakos-words/